فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم تكلم الحق سبحانه عن أمر كان لابد أن نعرفه، فالمسلمون الأوائل في مكة أُخرِجوا من ديارهم وأبنائهم وأموالهم لأنهم قالوا: ربنا الله، ولا شَكَّ أن للوطن وللأهل والبيئة التي نشأ فيها المرء أثرًا في ملكات نفسه، لا يمكن أنْ يُمحَى بحال، فإنْ غاب عنه اشتاق إليه وتمنَّى العودة، وكما يقول الشاعر:
بَلَدِي وَإنْ جَارَتْ على عَزيزَةٌ ** أَهْلِي وإنْ ضَنُّوا على كِرَامُ

لذلك، فطالب العالم عندما يترك بلده إلى القاهرة يقولون: لابد له أنْ يرجع، ولو أن تعضَّه الأحداث والشدائد، فيعود ليطلب من أهله العون والمساعدة، أو حتى يعود إليها في نهاية المطاف ليدفنوه في تراب بلده.
وقالوا: إن سيدنا سليمان- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لما تفقَّد الطير {فَقال مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 20- 21].
ذلك لأنه نبي، فالمسألة ليستْ جبروتًا وتعذيبًا، دون أن يسمع منه. وقالوا: إن الطير سأل سليمان: كيف يعذب الهدهد؟ قال: أضعه في غير بني جنسه، وفي غير المكان الذي يألفه، يعني: في غير موطنه.
يقول تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا }.
وفي موضع آخر يقول تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله} [الحج: 40] هؤلاء تحملوا الكثير، وتعبوا في سبيل عقيدتهم، فلابد أنْ يُعوِّضهم الله عن هذه التضحيات، لذلك يقول هنا: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} [الحج: 58] وأوضحنا أن الموت غير القتل: الموت أن تخرج الروح دون نَقْضٍ للبنية، أما القتل فهو نَقْض للبِنْية يترتب عليه خروج الروح.
{لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا } [الحج: 58] تعويضًا لهم عَمَا فاتوه في بلدهم من أهل ومال، كما يُعوّض الحاكم العادل المظلوم فيعطيه أكثر ممَا أُخِذ منه؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } [النساء: 100].
لأن مَنْ قُتِل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحُسنْيين، أما مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشرف؛ لذلك فقد وقع أجره على الله، وما بالك بأجر مُؤدِّيه ربك عز وجل؟ وكما لو أن رجلًا مُتْعبًا يسير ليس معه شيء ولا يجد حتى مَنْ يقرضه، وفجأة سقطت رِجْله في حفرة فتكَّدر وقال: حتى هذه؟! لَكِن سرعان ما وجد قدمه قد أثارتْ شيئًا في التراب له بريق، فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه.
ويُروْى أن فضالة حضرهم وهم يدفنون شهيدًا، وآخر مات غير شهيد، فرأوْه ترك قبر الشهيد وذهب إلى قبر غير الشهيد، فلما سألوه: كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد؟ قال: والله ما أبالي في أيِّ حفرة منهما بُعثْت ما دام قد وقع أجري على الله، ثم تلا هذه الآية: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } [النساء: 100].
ثم يقول سبحانه: {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [الحج: 58] حين يصف الحق سبحانه ذاته بصفة، ثم تأتي بصيغة الجمع، فهذا يعني أن الله تعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصفة، كما سبق أنْ تكلمنا في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
فقد أثبت للخَلْق صفة الخَلْق، وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة؛ لأنه سبحانه لا يبخس عباده شيئًا، ولا يحرمهم ثمرة مجهودهم، فكل مَنْ أوجد شيئًا فقد خلقه، حتى في الكذب قال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [العنكبوت: 17].
لأن الخَلْق إيجاد من عدم، فأنت حين تصنع مثلًا كوب الماء من الزجاج أوجدتَ ما لم يكن موجودًا، وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة لله تعالى، وأعملتَ فيها عقلك حتى توصلْتَ إلى إنشاء شيء جديد لم يكُنْ موجودًا، فأنت بهذا المعنى خالق حسن، لَكِن خلق ربك أحسن، فأنت تخلق من موجود، وربك يخلق من عدم، وما أوجدتَه أنت يظل على حالته ويجمد على خلْقتك له، ولا يتكرر بالتناسل، ولا ينمو، وليست فيه حياة، أما خَلْق ربك سبحانه فكما تعلم.
كذلك يقول سبحانه هنا: {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [الحج: 58] فأثبت لخَلْقه أيضًا صفة الرزق، من حيث هم سَبَب فيه، لأن الرزق: هو كل ما ينتفع به حتى الحرام يُعَدُّ رزقًا؛ لذلك قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172].
نقول: فالعبد سبب في الرزق؛ لأن الله تعالى هو خالق الرزق أولًا، ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل فيه، وتعطي منه للغير، فالرزق منك مناولة عن الرازق الأول سبحانه، فأنت بهذا المعنى رازق وإنْ كرهوا أنْ يُسمَّي الإنسان رازقًا، رغم قوله تعالى: {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [الحج: 58] لماذا؟ قالوا: حتى لا يفهم أن الرزق من الناس.
لذلك نسمع كثيرًا من العمال البسطاء، أو موظفًا صغيرًا، أو بواب عمارة مثلًا حين يفصله صاحب العمل، يقول له: يا سيدي الأرزاق بيد الله. كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله؟ قالوا: لأنه نظر إلى المناوِل الأول للرزق، ولم ينظر إلى المناوِل الثاني.
أما الرزق الحسن الذي أعدَّه الله للذين هاجروا في سبيله، فيوضحه سبحانه في قوله: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ }.
لأن الرزق قد يكون حسنًا لَكِنه لا يُرضِي صاحبه، أما رزق الله لهؤلاء فقد بلغ رضاهم، والرضا: هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة، بحيث لا تستشرف إلى أعلى منه، ولا تبغي أكثر من ذلك.
لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنة بنعيمها، مِمَا لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، بعدها يتجلَّى الحق- سبحانه- عليهم فيقول لعباده المؤمنين: يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيْتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين؟ قال: ألا أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا: وهل شيء أفضل مما نحن فيه؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5].
وقوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27- 28].
يبالغ في الرضا، حيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية، وكأنها تعشقك هي، وترضى بك.
ثم يقول سبحانه: {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59].
عليم: بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم، ثم يزيد مَنْ يشاء من فضله، فليس حساب ربك في الآخرة كحسابكم في الدنيا، إنما حسابُه تعالى بالفضل لا بالعدل.
وحليم: يحلم على العبد إنْ أساء، ويتجاوز للصالحين عن الهَفَوات، فإنْ خالط عملك الصالح سوء، وإنْ خالفت منهج الله في غفلة أو هفوة، فلا تجعل هذا يعكر صفو علاقتك بربك أو يُنغِّص عليك طمأنينة حياتك؛ لأن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حَدِّ قولهم حبيبك يبلع لك الزلط.
لذلك لما وَشَى أحد المؤمنين للكفار في فتح مكة، وهَمَّ عمر أن يقتله فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم.
ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعُدَّة، ألا نذكر لهم هذا الموقف؟ ألم يقل الحق سبحانه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [هود: 114] ومَنِ ابتُلِي بشيء يضعف أمامه، فليكن قويًّا فيما يقدر عليه، وإنْ غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمِّر له أنت في أبواب الخير، فإن هذا يُعوِّض ذاك. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ} يعني: يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا، فلا ينالون منهم شيئًا؛ وقال الزجاج: إذا فعلتم هذا وخالفتم أهل الجاهلية، فيما يفعلون في نحرهم وإشراكهم، فإن الله يدافع عن حزبه، أي المؤمنين؛ ويقال: إن أهل مكة آذوا المسلمين قبل الهجرة، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم في السر، فنهاهم الله عز وجل عند ذلك.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ}، يعني: يدفع أذاهم عن المسلمين، فأمرهم بالصبر.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {إِنَّ الله}، بغير ألف، والباقون {الله يُدَافِعُ} بالألف، من دافع يدافع، بمعنى دفع.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}، يعني: أثيم لأمانته، كفور لربه ولنعمته؛ وقال أهل اللغة: الخوان الفعال من الخيانة، وهو المبالغة في الخيانة، فمن ذكر اسمًا غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته، فهو خوان كفور.
قوله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون}، يعني: أذن للمؤمنين بقتال المشركين.
{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}، يعني: أذن لهم بالقتال بسبب أنهم ظلموا.
قرأ عاصم في رواية حفص {أَذِنَ} بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
أذن الله للذين يقاتلون بنصب التاء على معنى أنهم مفعولون، وقرأ ابن عامر: {أَذِنَ} بنصب الألف على معنى أذن الله للذين يقاتلون بنصب التاء؛ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو {أَذِنَ} بالضم {يقاتلون} بالكسر؛ وقرأ الباقون بالنصب.
قرأ حمزة والكسائي وابن كثير {يقاتلون} بالكسر ثم قال: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، يعني: قادر، وكان المشركون لا يزالون يؤذونهم باللسان وباليد، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما هاجروا، أمروا بالقتال.
ثم أخبر الله عن ظلم كفار مكة، فقال عز وجل: {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ}، يعني: بلا جرم أجرموا.
{إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله}، يعني: لم يخرج كفار مكة المؤمنين بسبب، سوى أنهم كانوا يقولون: ربنا الله، فأخرجوهم بهذا السبب ويقال: في الآية تقديم ومعناه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون} الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا: ربنا الله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
ثم قال: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بالجهاد وإقامة الحدود وكف الظلم؛ يقول: لولا أن يدفع المشركين بالمؤمنين، لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين.
{لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ}؛ ويقال: ولولا دفع الله بالأنبياء وبالمؤمنين من غيرهم، لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى.
{وصلوات}، يعني: كنائس اليهود، {ومساجد} المسلمين.
{يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا}؛ وقال مجاهد: لولا دفع الله تعالى الناس بعضهم ببعض في الشهادة في الحق، لهدمت هذه الصوامع، وما ذكر معها.
وقال الزجاج: تأويل هذا، ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض، لهدمت في شريعة كل نبي المكان الذي يصلي فيه، فكان معناه: لولا دفع الله، لهدم في زمن موسى الَكِنائس، وفي زمن عيسى البيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المساجد.
قرأ نافع: {وَلَوْلاَ عَبْدُ الله} بالألف، والباقون بغير ألف؛ وقرأ ابن كثير ونافع {لَّهُدّمَتْ} بالتخفيف، والباقون بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير.
ثم قال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ}، يعني: لينصرن بالغلبة على عدوه من ينصره بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: لينصرن الله من ينصره، يعني: ينصر الله من ينصر دينه بالغلبة، كما قال في آية أخرى: {يا أيها الذين ءامنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
ثم قال: {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ}، أي منيع قادر على أن ينصر محمدًا صلى الله عليه وسلم بغير عونكم.
قوله عز وجل: {الذين إِنْ مكناهم في الأرض}، يعني: إن أنزلناهم بالمدينة، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {الذين إِنْ مكناهم في الأرض أَقَامُواْ}، يعني: بالتوحيد واتباع محمد صلى الله عليه وسلم، {وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر}؛ أي عن الشرك.
{وَلِلَّهِ عاقبة الأمور}، يعني: لله ترجع عواقب الأمور، يعني: عاقبة أمور العباد في الآخرة.
قوله عز وجل: {وَإِن يُكَذّبُوكَ}، يعني: إن يكذبوك يا محمد أهل مكة، {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ يعني: قبل قومك.
{قَوْمُ نُوحٍ} كذبوا نوحًا، {وَعَادٌ} كذبت هودًا، {وَثَمُودُ} كذبوا صالحًا، {وَقَوْمِ إبراهيم} كذبوا إبراهيم، {وَقَوْمُ لُوطٍ} كذبوا لوطًا {وأصحاب مَدْيَنَ} كذبوا شعيبًا، {وَكُذّبَ موسى} يعني: كذبه قومه.
{فَأمْلَيْتُ للكافرين}؛ يعني: أمهلتهم.
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ}؛ يعني: عاقبتهم بعد المهل بالعذاب.
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}؟ يعني: كيف رأيت تغييري وإنكاري عليهم؟ يعني: أليس قد وجدوا حقًّا؟ فكذلك كفار مكة تصيبهم العقوبة، كما أصابهم.
ثم قال عز وجل: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ}، يعني: وكم من أهل قرية {أهلَكِناها}، يعني: أهلَكِنا أهلها، {وهي ظالمة}؛ يعني: كافرة.
{فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}، يعني: ساقطة حيطانها على سقوفها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ}، يعني: خالية ليس عندها ساكن، {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}؛ يعني: طويلًا في السماء؛ ويقال: معناه كم من بئر معطلة، عطلها أربابها وليس عليها أحد يستسقي، وقصر مشيد يعني: كم من حصن طويل مشيد ليس فيه ساكن؛ ويقال: المشيد هو المبني بالشيد، وهو الجص وهو المشيد المطول؛ ويقال: المشيد والمشيد سواء، أي المطول.
قرأ أبو عمرو: {أهلكتها} بالتاء، وقرأ الباقون: {قَرْيَةٍ أهلَكِناها} بلفظ الجماعة، وقرأ نافع في رواية ورش، وأبو عمرو في إحدى الروايتين وبير بالتخفيف، وهي لغة لبعض العرب؛ وقرأ الباقون بالهمز، وهي اللغة المعروفة.
ثم قال عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض}؛ يعني: أو لم يسافروا في الأرض فيعتبروا.
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، يعني: فتصير لهم قلوب بالنظر والعبرة يعقلون بها، {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} التخويف.
{فَإِنَّهَا}، أي النظرة بغير عبرة؛ ويقال: كلمة الشرك.
{لاَ تَعْمَى الابصار ولَكِن تعمى القلوب التى في الصدور}، يعني: العقول التي في الصدور؛ وذكر الصدر للتأكيد.
ثم قال عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب}؛ وهو النضر بن الحارث.
{وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} في العذاب.
{وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ}، يعني: إن يوما من الأيام التي وعد لهم في العذاب عند ربك في الآخرة، {كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} في الدنيا.
ثم بيَّن لهم العذاب في الآخرة، حيث قال: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ}، ووصف طول عذابهم؛ ويقال: إنه أراد بذلك قدرته عليهم بحال استعجالهم، أنه يأخذهم متى شاء.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {مّمَا يَعْدُونَ} بالياء، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
ثم قال عز وجل: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا}، فلم أعجل عليها العقوبة.